مفهوم العصمة

العصمة: لغة من عصم، وهي أصل صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة.

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103]، أي: التزموا وتمسكوا.

وقال: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاء} [هود: 43]، أي: يمنعني.

وقال: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، أي: يلتزم ويتمسك بأوامر الله.

أما العصمة اصطلاحًا: فلها عدة أوجه من حيث إسقاطها على الواقع.

أولًا: العصمة من القتل.

ثانيًا: العصمة من النسيان والخطأ في التبليغ وذلك يتضمن حفظ العقل من الغياب أو الجنون.

ثالثًا: العصمة من الكفر والمعاصي.

رابعًا: العصمة من الخطأ في فهم الأشياء والحكم عليها.

فهل كانت العصمة الربانية متحققة بالأنبياء بأوجهها الأربعة؟

لنر ذلك من خلال مناقشة كل واحد بعينه:

أ- العصمة من القتل: إن الحفظ من القتل لم يكن للأنبياء جميعًا، وهذا واضح بنص القرءان قال تعالى: {يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].

بينما نلاحظ أنه يوجد أنبياء قد حفظهم الله عزوجل من القتل، نحو:

النبي إبراهيم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

النبي موسى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20].

النبي محمد: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} [المائدة: 67].

ب- العصمة من النسيان والخطأ في التبليغ: عصمة ربانية.

إن الحفظ الإلهي للرسول النبي من النسيان والخطأ في التبليغ هو أمر لازم عقلًا لمقتضى الحال من كونه يبلغ عن ربه.

وقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].

وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

فالحفظ إنما هو لمادة الوحي وذلك يقتضي ضرورة حفظ النبي من غياب الوعي والإدراك، أو الإصابة بأي مرض نفسي مثل الاكتئاب والسحر، أو الإصابة بأي مرض جسمي يحول بينه وبين دعوة الناس مثل مرض الجزام، لأن ذلك يقدح في مادة الوحي فاقتضى حفظه من الله عز وجل عن كل ما ذكر.

ج- العصمة من الكفر والمعاصي: عصمة اكتسابية معرفية.

قبل الخوض في هذا النوع من العصمة يجب الكلام على مقام النبوة، فالنبوة ليست هي منصبًا شكليًّا يتم منحها ارتجالًا أو قرعة، وإنما هي منصب تلزم له مؤهلات وميزات وصفات معينة، فمن يتحقق به ذلك يُرشح لهذا المقام، وعملية الانتخاب والاصطفاء تكون من حق الخالق المدبر فقط، فيختص برحمته من يشاء من منطلق العلم والحكمة والخبرة الإلهية.

{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: 14].

{اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

فيمنح الله تبارك وتعالى مقام النبوة للإنسان الذي تم اصطفاؤه من دون الآخرين، فيحصل هذا الإنسان المصطفى على مجموعة من الأنباء عن الوجود الموضوعي بحيث يصير عنده علم بمجموعة من الحقائق ابتداءً من أكبر حقيقة في الوجود الموضوعي، ألا وهي حقيقة وجود الخالق المدبر، فيدرك ذلك حق اليقين، إضافة إلى بعض الأنباء من الحقائق الموضوعية عن الكون، فيصير هذا الرجل في مقام النبوة.

إذن؛ مقام النبوة هو منصب علمي ومعرفي، وليس منصبًا إداريًّا أو شكليًّا لا محتوى له، فالنبوة علوم ومعارف ترفع صاحبها إلى مقام عظيم من الإيمان بالخالق المدبر.

إن العصمة من الكفر والمعاصي إذا كانت ربانية فهذا يقتضي قهر المعصوم والسيطرة على إرادته بحيث يصير موجهًا من قبل قوة تفرض ذاتها عليه، وبالتالي فلا إرادة له ولا فضل أو ثواب في ترك المعاصي وفعل الطاعات؛ لأنه مسلوب الإرادة ومسلوب الشهوات الإنسانية، بينما نلاحظ من خلال سيرة الأنبياء جميعًا أنهم يملكون إرادة حرة، ولهم شهوات الإنسان، وهذا شيء طبيعي لأنهم من البشر {قلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، ونفي ذلك عنهم هو نفي لبشريتهم وقد عاملهم الله على هذا الأساس البشري [الإرادة الحرة والشهوات الإنسانية: فقال جل شأنه:

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} [الحاقة: 44- 46].

وهذا التهديد الإلهي للأنبياء الصادقين، ولا يشمل الأنبياء الكاذبين، فهو صريح في أن النبي يملك القدرة على التقول على الله، ولولا ذلك لما كان للتهديد أي معنى أو مبرر إذا كان النبي لا يملك قدرة على الكذب، ولنزل عوضًا عن التهديد إخبار من الله بأن هذا النبي مسلوب الإرادة والشهوات، وبالتالي فهو مجبور مقهور ليس له من الأمر شيء!

لذا؛ العصمة من الوقوع بالكفر أو المعاصي إنما هي عصمة إرادية اكتسابية وليست عصمة ربانية، وتكون في الواقع من خلال العلم والمعرفة لحقائق الأمور، لأن النبوة علوم ومعارف، فهذا يقتضي عصمة صاحب هذا المقام من منطلق العلم اليقيني لعظمة الخالق سبحانه وتعالى والاستحضار الدائم لوجوده{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، والمعرفة لبعض الحقائق الكونية التي تزيد إيمانه بعظمة الخالق وقدرته على كل شيء، فيتشكل عند النبي إراديًّا مانع من الكفر والمعاصي من منطلق الإيمان بالله العظيم رغبة إليه ورهبة منه ومحبة له.

وهذه العصمة من الكفر والمعاصي ممكن أن يصل إليها العلماء؛ لأنه لا يخلو إنسان من وجود أمور معينة تكون بالنسبة إليه موانع بشكل حازم، بل لا يفكر أصلًا بفعلها نحو أن يقتل الإنسان نفسه، أو يقتل أمه أو ابنه، أو أن يخرج إلى الشارع عاريًا.. إلى غير ذلك من الأمور التي تكون عند صاحبها من المسائل المعصوم عن فعلها من منطلق المفاهيم التي يحملها بشكل إرادي وذاتي.

فالذي عنده علم عن شيء يتعامل معه بحسب علمه المسبق.

فالعالم الذي يعلم أن اللحم ملوث وتناوله يؤدي إلى الهلاك الحتمي، فإنه يتعامل معه حسب علمه بمآله فيتشكل عنده مانع ذاتي عن تناول هذا اللحم الملوث، بل لا يفكر في تناوله ولو عرض عليه المال والمنصب، فإنه يبقى على تمنعه وبشدة؛ لأنه يعلم أن هذه الإغراءات كلها وهمية إذا تناول اللحم الملوث فإنه سوف يهلك ولن يحصل على أي شيء، حتى أنه لو جاع فهو لا يفكر بسد جوعه بالتناول منه، وهذا الإصرار والتمنع كان نتيجة علمه بمآل الأمر حقيقة فتشكلت عنده العصمة من سلوك هذا الفعل القاتل!

والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء والمعارف لحقائق الأمور ومآلها التي يحصلونها من خلال السير في الأرض ومعرفة كيف بدأ الخلق {قلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ} [العنكبوت: 20]، يصلون من خلال هذه المعرفة إلى الإيمان بالخالق المدبر، ويقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].

ويرون عظمة الخالق وقدرته من خلال آيات الآفاق والأنفس{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} [فصلت: 53].

عندئذ يذعنون للحق ويخضعون له. وعند استحضار هذه الحقائق الإيمانية التي وصلوا إليها من خلال الحقائق الكونية [آفاقًا وأنفسًا] يلزم منها خشية الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، فيتولد من هذه المعرفة والخشية والتعظيم لله تبارك وتعالى قوة في أنفس العلماء تمنعهم وتردعهم عن الوقوع في الكفر أو المعاصي، وكلما ازداد إيمانهم بعظمة الخالق ازدادت خشيتهم له، وبالتالي تزداد عصمتهم عن فعل المعاصي بشكل إرادي وذاتي منبثقة من علمهم واستحضارهم لهذا العلم.

د- العصمة عن الخطأ في فهم الأشياء والحكم عليها:

إن الإنسان محدود بحواسه ومحدود بإدراكه للأشياء، كما أن علمه يكتسبه اكتسابًا وليس علمًا ذاتيًّا، والاكتساب للعلم يكون من خلال السير والدراسة والتدبر للواقع والجدولة والتصنيف للمعلومات وتقليمها، {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4].

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ} [العنكبوت: 20].

ويزداد العلم عند الناس كلما امتد بهم الزمان، فيتسع أفق المعرفة أضعاف ما كان عليه سابقًا، والوصول إلى الصواب يكون من خلال تراكم معلوماتي يحتوي على أجزاء كثيرة من الصواب، فيقوم الباحث بعملية الربط بينهما والاستقراء لها.

إذن؛ الإنسان لا يصل إلى العلم إلا من خلال السير في الأرض والدراسة والتدبر، وذلك لأن التفكير لا يتم إلا بواقع يكون محلًّا له ومهما حصل الإنسان في حياته على معلومات فإن ما يخفى عليه أكثر بكثير مما علمه.

{وَمَا أُوتِيتُم مِّن العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85]،

فالناس لا يعلمون كل شيء، وبالتالي فما أكثر أخطائهم في تفسير الأشياء أو الحكم عليها. فصفة عدم العلم أو المعرفة صفة لازمة للإنسان

{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]

وكذلك صفة الخطأ لازمة للإنسان كون معلوماته ومعارفه اكتسابية ومحدودة، وكونه محدود الإدراك [كل بني آدم خطَّاء] وهذا واقع مشاهد وهو من المسلمات التي لا تحتاج إلى برهان، ولا يستثنى من ذلك أحد من الناس حتى ولا الأنبياء أنفسهم لأنهم من البشر، وينطبق عليهم ما ينطبق على البشر هذا ما أثبته الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه ؛إذ قال آمرًا لرسوله: {قلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، فلا يوجد إنسان يعلم كل شيء ويفهم بكل شيء، ويستطيع أن يحكم على كل شيء؛ لأن هذه الصفات لا تكون لمحدود، وإنما تكون لمن هو أزلي في الوجود سرمدي في البقاء.

قال تعالى معلمًا نبيه: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188].

{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، فهذا النوع من العصمة غير موجود لأي كائن حتى أن الملائكة أنفسهم غير متحقق بهم العصمة في الفهم الصواب والحكم على الأشياء.

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].

بعد بحث العصمة بأوجهها علمنا أن العصمة الربانية لا تكون إلا في حال إنزال وحي إلى النبي فيتم حفظه والعناية به من النسيان والخطأ في التبليغ أو فقدان العقل أو الإصابة بالجنون وما شابه ذلك مما يعيق عملية تبليغ دعوة الله والإنذار.

فالعصمة الربانية ليس المقصد بها شخص الرسول نفسه وإنما المقصد بها هو مادة الوحي، لذا، استمرت عملية الحفظ الإلهي لمادة الوحي بعد وفاة النبي، وذلك بقوة ذاتية قائمة في تركيب بنية الكتاب الذي أنزله الله ومصداقيته في الواقع، وروايته من قبل الناس بشكل متواتر كما نزل على النبي ومن هذا الوجه يظهر لنا أن الرسل الأنبياء جميعهم معصومون عن القتل لاستمرار وحفظ الرسالة بخلاف الأنبياء، فلقد تعرضوا للقتل، وذلك لأنهم مجرد أئمة وعلماء ودعاة.

الخلاصة:

أولًا: اكتمل نزول الوحي على النبي {.. اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا..} [المائدة: 3].

ثانيًا: بما أن الدِّين قد اكتمل نزولًا اقضى ختم النبوة.

{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].

ثالثًا: مادة الوحي محفوظة من التحريف والنسيان والاندثار {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

رابعًا: قام النبي بتنفيذ أمر الرب تبارك وتعالى وبلغ كل ما نزل عليه من ربه. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} [المائدة: 67].

خامسًا: كان البلاغ للناس جميعًا وليس خاصًّا لأحد.

{قلْ يا أَيُّها النَّاسُ إِنِّي رَسولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

Exit mobile version